أولاً: تعريفُ الإجازةِ القرآنيةِ، ومشروعيتُها
الإجازة القرآنية:
هي عمليةُ النَّقلِ الصوتيِّ للقرآن الكريمِ من جيلٍ إلى جيل، وفيها يَشهدُ المُجيزُ أنَّ تلاوةَ المُجازِ قد صارت صحيحةً مئةً بالمئةِ بالنسبةِ للروايةِ - أو الرواياتِ - التي أجازَهُ بها, ثم يَأذَنُ له أَنْ يَقرأَ ويُقرِئَ غَيرَه القرآنَ الكريمَ.
مشروعية الإجازة:
الأصلُ فيها: قولُ اللهِ تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ سُورَةُ النمل 6.
ومادة ( تَلَقَّى ) مشتقَّةٌ من ( اللُّقْيا ) فيها لقاءٌ بينَ اثنينِ: هُما المُتلقِّي والمُتلقَّى منهُ, فقد تلقَّى جبريلُ - عليه السلام- من اللهِ تعالى، وتلقَّى نبيُّنا محمدٌ eمِن جبريل، وتلقَّى الصحابةُ رضوانُ اللهِ تعالى عليهم من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
أخرجَ البخاريُّ في صحيحِه في كتاب ( فضائلِ القرآن ) عن مسروقٍ قال: ذَكرَ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ فقالَ: لا أزالُ أحبُّهُ، سمعتُ النبيَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: « خُذوا القرآنَ من أربعةٍ: مِن عبدِ اللهِ بنِ مسعود، وسالمٍ، ومعاذٍ، وأُبيِّ بنِ كعب ».
يدلُّ هذا الحديثُ على أمورٍ، منها:
1 - قراءةُ القرآنِ تؤخَذُ بالتَّلقِّي مِن أفواهِ المُقرئين المُتقِنين، وهذا معنى الإجازةِ الذي تقدَّم.
2 - مشروعيةُ تحرِّي الضابطِين من أهلِ القرآنِ للأخذِ عنهم والتَّلقِّي منهم؛ فالقرآنُ لا يؤخَذُ عنكلِّ أحدٍ.
3 - محبةُ القُرَّاءِ الحافظِين المُتقِنينَ على وجهِ الخُصوص ؛ لأنَّ صُدورَهم أوعيةٌ لكتابِ اللهِ تعالى وهُم في إتقانِه وقراءتِه والأمانةِ في تعليمِه كالملائكةِ السَّفَرة, الكرامِ البَرَرة.
ثانياً: أهميةُ الإجازةِ القرآنيَّة في القراءة والإقراء
مما لا شكَّ فيه أنَّ طلبَ الإجازةِ في قراءةِ القرآنِ الكريمِ, قراءةً صحيحةً, متَّصلةَ السَّنَدِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرٌ محمودٌ شرعًا، كيف لا وقد جاء عن بعضِ السلَفِ رحمَهم اللهُ الرِّحلةُ في طلب الحديث ؟ فالرِّحلةُ في طلبِ إتقانِ تلاوةِ القرآنِ مِن بابِ أَوْلى, وصاحبُها مأجورٌ مشكور.
وتبرُزُ أهميةُ الإجازةِ بأنه لا يَصحُّ لأحدٍ أن يُقرئَ القرآنَ الكريم، حتى يأخذَه أخذًا كامِلًا من أفواهِ المشايخِ العارفين المُتقِنين, ويُؤذَنَ له بالإقراء, فإن لم يُؤذنْ له بالإقراءِ فلا ينبغي أن يُقرئَ القرآنَ حتى لو قرأَ القرآنَ مراتٍ عديدة، فإنَّ السماعَ والعَرْضَ لا يكفِيانِ في صِحَّةِ أداءِ القرآنِ بعد زمانِ شُيوعِ اللَّحْن، بل لا بُدَّ معهما من إجازةٍ وإذنٍ بالقراءةِ والإقراءِ، وذلك لأنَّ الطالبَ قد يقرأُ القرآنَ كلَّه على شيخِه مِرارًا ولا يُتقِنُ الأداءَ فلا يُجيزُه الشيخ، ومِن ذلك ما ذكرَه الإمامُ ابنُ الجزريِّ -رحمه اللهُ تعالى- عن الإمامِ أحمدَ بنِ أحمدَ بنِ إبراهيمَ الهاشميِّ ( ت 646 هـ ) أنَّه قرأ عليه أبو جعفرٍ بنُ الزبيرِ روايةَ ورشٍ عِدَّةَ خَتَمات، قال: ولم يُجِزْني، وقرأ عليه بعضُ أَتْرابي وأجازَ له.
ومِن هنا كان بعضُ السَّلفِ رحمَهم اللهُ يَطلُبون من بعضِ تلاميذِهم إِعادةَ قراءةِ القرآن مرَّاتٍ عديدةٍ حتى يَستوثِقوا مِن إتقانِهم.
فمِن ذلك أنَّ مجاهدَ بنَ جَبْرٍ المكِّيَّ قرأ على ابنِ عبَّاسٍ ثلاثينَ ختمة.
ومِن ذلك أنَّ الإمامَ أبا جعفرٍ عرَضَ القرآنَ على مولاه عبدِ اللهِ بنِ عيَّاش، وعلى عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ، وعلى أبي هريرةَ رضي الله عنهما.
ومِن ذلك أنَّ الإمامَ نافعَ بنَ أبي نُعيَمٍ قال: قرأتُ على سبعينَ مِن التابعِين.
ومن ذلك أنَّ هشامَ بنَ عمارٍ السُّلَميَّ أخذَ القراءةَ عَرْضًا عن أيُّوبَ بنِ تميمٍ وعِراكِ بنِ خالد، والوليدِ بنِ مسلم، وصدقةَ بنِ خالد، وغيرِهم.
وأكثرُ ما بلغَنا في ذلك عن الإمامِ يوسفَ بنِ عليِّ بنِ جُبارةَ أبي القاسمِ الهُذَليِّ مؤلفِ كتابِ الكاملِ في القراءات، قال فيه عن نَفْسِه: فُجملةُ مَن لقيتُ في هذا العلم ثلاثُمائةٍ وخمسةٌ وستُّونَ شيخًا مِن آخرِ المَغربِ إلى باب فَرْغانةَ يمينًا وشِمالًا وجبلًا وبحرًا، ولو علمتُ أحدًا تقدَّم عليَّ في هذه الطبقةِ في جميعِ بلادِ الإسلامِ لقصدتُه.
وقد علَّقَ إمامُنا الجزريُّ على هذا الكلامِ للهُذليِّ بقولِه: « قلتُ: كذا تَرى هِمَمَ الساداتِ في الطلَب ».
ولا يوجدُ واحدٌ منهم البتةَ أقرأَ الناسَ واعتُمِدَ عليه في الإقراءِ إلَّا وقد عَرضَ القرآنَ كلَّه من أوَّلِه إلى آخِره على أحدِ الشيوخِ المعتبَرين، وشَهِد له علماءُ القراءةِ والأداءِ بالحفظِ والإتقان.
وهذا مِن حفظِ اللهِ تعالى لكتابِه، فإنَّه قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ سُورَةُ الحِجر: 9. وهذا الحفظُ مِن اللهِ سبحانه حفظٌ مطلَق ؛ حَفِظَه في آياتِه وسُورِه، وفي رسمِه ونظمِه، وفي كيفيةِ تَلَقِّيه وأدائِه، وفي تفسيرِه ومعانيه، وكفى بالله حافظًا ومهيِّـئًا لأسبابِ حِفْظِه، فإنَّ الأُمَّةَ لم تَعْتَنِ بشيءٍ كاعتنائِها بالقرآنِ الكريمِ، من عهد النبيِّ e إلى زمانِنا هذا وإلى ما شاءَ الله.
فلا يمكنُ أن يخلوَ عصرٌ من العصورِ وجيلٌ من الأجيال من قائمٍ للهِ بالحُجَّةِ في إقراءِ القرآنِ الكريمِ وتعليمِه.
لذا فإنَّه لا يجوزُ لأحدٍ بعدَ ذلك أن يُقْدِمَ على إقراءِ القرآنِ الكريمِ إلَّا بعدَ تَلقٍّ كاملٍ للقرآنِ من أوَّلِه إلى آخِرِه عَرْضًا على أحدِ المشايخِ المُتقِنينِ المُتلَقِّينَ عن مِثلِهم إلى النبيِّ e، وبعدَ إجازةٍ منهم له بالإقراء.
ثالثاً: شروطُ وضوابط الإجازةِ بالقرآن الكريم
أوَّلًا: حفظُ القرآنِ الكريمِ حِفظًا كاملًا مُتقَنًا:
وذلك لأَنَّ الأسانيدَ التي وصلَنا القرآنُ العظيمُ من خِلالِها قد قرأَ كلُّ واحدٍ من رجالِها على شيخِه غيبًا مِن حفظِه، بدءًا مِن مشايِخنا وانتهاءً إلى رسولِ الله e، فالسندُ مُسلسَلٌ بالقراءةِ الكاملةِ عن ظهرِ قلبٍ.
ومَن قرأ على أستاذِه نظرًا مِن المصحفِ مع التجويدِ الكامل، ثم طلبَ إجازةً فلا مانعَ أن يُعطَى شهادةً بما قرأ، يُوصَفُ فيها الواقعُ الذي جرَى, ويُبيَّنُ أنَّ فلانًا قرأ القرآنَ كلَّه أو بعضَه نظرًا مِن المصحفِ مع التجويدِ الكاملِ والضبطِ التامِّ، وأقترحُ أن تُسمَّى: « شهادةَ إتقانِ تلاوةِ القرآن » وذلك تمييزًا لها عن الإجازةِ القرآنيَّةِ التي تعارَفَ القرَّاءُ عليها.
ثانيًا: حفظُ منظومةِ « المقدِّمة الجزريَّة » في التجويد، وفهمُ شرحها:
وذلك لأنَّ نقلَ القرآنِ العظيمِ يَتِمُّ ضِمنَ ضوابطَ وقُيودٍ معيَّنة، من حيثُ مخارجُ الحروفِ وصفاتُها مفرَدةً ومجتمِعةً، لهذا تَحتَّمَ على طالبِ الإجازةِ معرفةُ هذه الضوابطِ وحفظُها، وقد جرَتْ عادةُ القُرَّاءِ على حفظِ منظومةِ « المقدِّمة الجزريَّة » في التجويد، لإمام القُراءِ ابنِ الجزريِّ – رحمه الله – لكونِها حَوَتْ مُعظمَ أحكامِ التجويد، ثم تَحتَّمَ عليهم معرفةُ معانيها وفهمُ شرحِها ؛ لتكونَ مرجعًا لهم تَحفَظُ تلاوتَهم من اللَّحْن، فللرِّوايةِ نقلُها، وللدِّرايةِ ضبطُها.
ثالثًا: قراءةُ القرآنِ الكريمِ كاملًا على الشيخِ المُجيزِ حرفًا حرفًا:
وذلكَ مِن أوَّلِ الفاتحةِ إلى آخِرِ الناس، مع مراعاةِ جميعِ أحكام التجويدِ من حيثُ المخارجُ والصفاتُ
وغيرُ ذلك ممَّا هو معلوم.
وما يفعلُه بعضُهم مِن قراءةِ أحدِ الطلابِ عليه شيئًا مِن القرآنِ ثم يُجيزُه إجازةً مُبهَمةً تُوهِمُ أنَّه قد قرأ كاملَ القرآن فهذا لا يَصحُّ ولا يَجوز، إلَّا إذا نَصَّ المُجيزُ أنَّ فلانًا قرأ من كذا إلى كذا وأجزتُه بذلك.
أمَّا أن يقرأَ الطالبُ على أستاذِه بعضَ القرآنِ ثم يُجيزُه بجميعِه فهذا مستعملٌ عند بعضِ القرَّاءِ إن علمَ وتأكَّدَ أنَّ هذا الطالبَ قد قرأ على غيرِ هذا الأستاذِ كاملَ القرآن وأتقنَه وأُجيزَ به.
لكن إذا ما كان هذا الطالبُ مُستجِدًّا في القراءة ولا يعلمُ أستاذُه عن قراءتِه باقي القرآنِ شيئًا فلا يجوزُ له أن يُجيزَه ؛ لأنَّ في القرآنِ ألفاظًا لا تَرِدُ إلَّا مرةً واحدة، وضبطُها يحتاجُ لاِنتباهٍ وتَيَـقُّظ، كالإشمامِ والرَّومِ في ﴿ تَأْمَنَّـا ﴾ بيوسف، والإمالةِ الكبرى في ﴿ مَجْرَاهَا ﴾ بهود، والتسهيلِ في: ﴿ ءَأَعْجَمِيٌّ ﴾ بفُصِّلَت.
فهذه بعضُ الألفاظِ التي لم تتكرَّرْ في القرآن، كيف يَشهدُ الشيخُ للطالبِ أنَّ أداءَهُ صحيحٌ لهذه الكلماتِ وهو لم يَسمَعْها منه ولم يَضبِطْها لَهُ ؟ واللُه تعالى يقول: ﴿ سَتُـكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾سُورَةُ الزُّخرف: 19.
رابعًا: تدريبُ المُجيزِ للمُجازِ على الإِقراء:
لأنَّ القراءةَ شيءٌ، والإِقراءَ شيءٌ آخر.
فكم ممَّن يُحسِنُ القراءةَ ولا يُحسِنُ الإقراء، فينبغي للمُجيزِ أن يُدرِّبَ طالبَه على الإقراء، وذلك بأن يأتيَ بطالبٍ جديدٍ في التلاوةِ ويأمرَ طالبَ الإجازةِ أن يُصحِّحَ له تلاوتَه أمامَه على نحوِ الهيئةِ التي تلقَّاها من مُجيزِه، فإن استطاعَ ذلك فهو أهلٌ لأن يُقرئَ غيرَه، وإن لم يَستطِعْ فيُجيزُه أستاذُه أن يَقرأَ فقط، ولا يَحِقُّ للمُجيزِ أن يأذنَ له بالإقراءِ حتى يصيرَ أهلًا لذلك، وإلَّا فسنرى انحرافًا في أداءِ القرآنِ والتجويد، سببُه عدمُ الأهليَّةِ للإقراء.
كما ينبغي للمُجيزِ تدريبُ الطالبِ على القراءةِ ببعضِ أجزاءٍ مِن القرآنِ قبلَ البَدءِ بختمةِ الإجازةِ التي يجبُ أن تكونَ خاليةً مِن الأخطاء.
وعليه أيضًا اختبارُ الطالبِ بالوقفِ على كلِّ كلمةٍ يَصعُبُ الوقفُ عليها على غيرِ المتعلِّم، مثلُ﴿ حَاضِرِي﴾ مِن قولِه تعالى: ﴿ حَاضِرِي الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ ﴾ سُورَةُ البقرة 169، و﴿ ويَمْحُ ﴾ مِن قولِه سبحانه: ﴿ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ ﴾ سُورَةُ الشُّورى 24، وغيرِ ذلك.
كما عليه اختبارُ الطالبِ بالاِبتداءِ بالكلماتِ التي يَصعُبُ الاِبتداءُ بها على غيرِ المتعلِّم، مثلُ: ﴿ اجْتُثَّتْ ﴾،
و﴿ امْشُوا ﴾، و﴿ لْئَيْكَة ﴾، و﴿ لْيَقْطَعْ ﴾ وغيرِ ذلك.
ويَختبِرُه أيضًا بوصلِ الكلماتِ التي يَصعُبُ وصلُها على غيرِ المتعلِّم، مثلُ: ﴿ مَا هِيَهْ * نَارٌ ﴾
و﴿طُوًى * اذْهَبْ ﴾ و﴿ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ﴾و﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ ﴾إلى غيرِ ذلك.
والأَوْلى تدريبُ الطالبِ على مراتبِ القراءةِ الثلاث، ولا بأسَ أن يقرأَ الثُّلُثَ الأوَّلَ مِن القرآنِ بمَرْتبةِ التحقيق، والثُّلُثَ الثانيَ بمرتبةِ التَّدْوير، والثُّلُثَ الأخيرَ بالحَدْر، فيكونَ قد أَتقَنَ المراتبَ كلَّها.
وقد شاهدْنا بعضَ مَن يُتْقِنونَ القراءةَ بالتحقيقِ أو بالتَّدويرِ ولا يُتقِنونَها بالحَدْر ؛ لأنَّ شيخَهم لم يُدرِّبْهم على هذه المرتبة، وهي ضروريةٌ في المراجعةِ والمدارَسةِ وفي صلاةِ التراويحِ وقيامِ الليل.
رابعاً: أركانُ الإجازةِ بالقرآن الكريم
أوَّلًا: مُجيز: وهو الشيخُ الذي يَسمَعُ القرآنَ كلَّه من الطالبِ مع التجويدِ والضبطِ التامِّ.
ثانيًا: مُجاز: وهو الطالبُ الذي يقرأُ أمامَ الشيخِ ويتلقَّى منه القرآن.
ثالثًا: مُجازٌ بهِ: وهو القرآنُ العظيم, الذي هو كلامُ اللهِ تعالى, المنزَّلُ على رسولِ اللهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم باللسانِ العربيِّ، المُعجِزُ بأَقصرِ سورةٍ منه، المكتوبُ في المصاحف، المنقولُ إلينا بالتواتُر، المتعبَّدُ بتلاوته، المبدوءُ بسورةِ الفاتحة، المختومُ بسورةِ الناسِ، وذلك بإحدى رواياتِه التلفُّظيَّةِ أو أكثر.
رابعًا: إسناد: وهم الرجالُ الذينَ نقلوا لنا القرآنَ العظيمَ مُشافَهةً، كلُّ واحدٍ منهم قرأَ على شيخهِ، وشيخُهُ على شيخِهِ، وهكذا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عن أمينِ الوحيِ جبريلَ، عن ربِّ العِزَّةِ تبارك وتعالى.
قال الإمام ابنُ الجزريِّ – رحمه الله تعالى- في كتابه النشر في القراءات العشر:
« ولمَّا خصَّ اللهُ تعالى بحفظِه مَن شاء مِن أهلِه.. أقام لهم أئمةً ثقاتٍ، تجرَّدوا لتصحيحِه وبذلوا أنفسَهم في إتقانِه، وتلقَّوْه من النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا، لم يُهمِلوا حركةً ولا سكونًا، ولا إِثباتًا ولا حَذفًا، ولا دَخَلَ عليهم في شيءٌ منه شكٌّ ولا وَهمٌ » اهـ.
وهذا هو السببُ الذي جعلَنا نقولُ في تعريفِ الإجازة: « وفيها يشهدُ المجيزُ أنَّ تلاوةَ المُجازِ قد صارت صحيحةً مِئةً بالمِئة ».
فتسعٌ وتسعونَ بالمِائة درجةٌ ممتازةٌ في غيرِ الإجازةِ بالقرآن، أمَّا فيها فلا يُقبَلُ إلَّا مِئةٌ بالمِئة:
وسببُ ذلك أنَّ بيننا وبينَ سيِّدِنا رسولِ- اللهِ صلى الله عليه وسلم- في الأسانيدِ القرآنيَّةِ المُعاصِرةِ (30) رجلًا في متوسِّطِ الأسانيد، قد نَقلَ كلُّ واحدٍ منهم القرآنَ لمَن بعدَه، وهكذا حتى وصلَ إلينا، فلو تساهلَ كلُّ واحدٍ مِن هؤلاءِ بواحدٍ بالمِئةِ في القراءةِ في النقل لكان نقلُ القرآنِ من الصحابةِ إلى التابعين بصِحَّةٍ نسبتُها (99%) ومن التابعين لمَن بعدَهم (98%)، وإلى مَن بعدَهم (97%) وهكذا حتى يَصِلَ إلينا بنسبةِ (70%) فما الرأيُ بقرآنٍ وتجويدٍ وضَبطٍ نِسبتُه (70%) ؟!
هذا إن تساهلَتْ كلُّ طبقةٍ بواحدٍ بالمِئة فقط، فما بالُنا لو زاد التساهل؟
لكنْ – بحمدِ اللهِ تعالى- لم يَقعْ هذا الأمرُ، وقد وصلنا القرآنُ العظيمُ مضبوطًا بكلِّ حركةٍ وسكون، وغُنَّةٍ وقلقلة، ومَدٍّ وقصر، وتفخيمٍ وترقيق، محفوظًا مِن كلِّ تغييرٍ وتبديل، وصدقَ اللهُ العظيمُ إذ يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ سُورَةُ الحِجر 9.
فلْنحرِصْ أن نكونَ ممَّن حفظَ اللهُ بهم القرآن، ولنَحذَرْ أن نكونَ مِن المتساهلين المضيِّعين, قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ سُورَةُ النِّساء 58.
وقال سبحانه: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سُورَةُ البقرة 181.
خامساً: أنواعُ الإجازةِ بالقرآن الكريم
1- الإجازة بحفظِ القرآنِ الكريمِ كاملًا غيبًا، بالتجويد والإتقان:
وذلك بروايةٍ أو أكثرَ من الرِّواياتِ المتواترةِ عن القرَّاء العشر.
2- شهادةُ إتقانِ تلاوة القرآن:
تُعطَى لمن يُجيدُ تلاوةَ القرآن نظرًا مِن المصحف من أوَّلِه إلى آخِرِه، مع حفظِ منظومةِ الجزَريَّة أو غيرِها مِن متونِ التجويد المُعتبَرة.
3- شهادةُ حضورِ دورةِ إتقانِ التلاوة:
وشرطُها أن يُنَصَّ في الشهادةِ على الواقعِ الذي تمَّ ؛ مِن حيثُ الفترةُ الزمنيَّةُ للدورة، والمَنهجُ النظريُّ الذي تمَّتْ دراستُه، ومقدارُ التلاوةِ التطبيقيَّة.
سادساً: آدابُ الإجازةِ بالقرآن الكريم
أولًا: آداب الشيخ (المُجيز):
الإخلاص: أن يقصدَ بتعليمِه مرضاتَ اللهِ تعالى، ولا يقصدَ به توصُّلًا إلى غرَضٍ من أغراضِ الدنيا من مالٍ أو رئاسةٍ أو وَجاهةٍ أو غيرِ ذلك.
أن لا يكونَ قصدُه المباهاةَ بتكثيرِ طُلابِه.
أن لا يَكرهَ قراءةَ طلابِه على غيرِه ممَّن يُنتفَعُ به.
التخلُّقُ بالأخلاقِ المحمودةِ شرعًا، وخاصةً تواضُعَه لطلابِه.
العنايةُ بنظافةِ جسمِه وثوبِه.
الرِّفقُ بمَن يقرأُ عليه مِن الطلَبة، والترحيبُ به، والإحسانُ إليه، وعدمُ استخدامِه في
الحاجاتِ الخاصة.
الاِعتناءُ بمصالحِ الطالب، وبذلُ النصيحةِ له.
تفريغُ القلبِ حالَ الإقراءِ من الشواغل.
تقديمُ الأوَّلِ فالأولِ في الإقراءِ إذا ازدحموا.
تفقُّدُ مَن يغيبُ منهم.
عيادةُ مَن يَمرَضُ منهم.
توسيعُ مجلسِ القراءة.
ثانيًا: آدابُ الطالِب (المُجاز):
الإخلاص، كما تقدَّمَ في آدابِ المُجيز.
التخلُّقُ بالأخلاقِ الحميدة، وخاصةً التواضعَ لأستاذِه.
العنايةُ بنظافةِ جسمِه وثوبِه.
تفريغُ القلبِ من الشواغِلِ في أثناءِ القراءة.
التأدُّبُ مع مُعلِّمِه ولو كان أصغرَ منه سِنًّا أو شُهرة، وأن ينظرَ إليه بعينِ الاِحترام.
أن لا يتعلَّمَ إلَّا ممَّن هو أهلٌ للإقراء.
التأدُّبُ مع رُفقةِ الشيخِ وحاضري مجلسِه.
أن لا يقرأَ على الشيخِ في حالِ شُغلِ قلبِه أو ملَلِه، أو جوعِه، أو نُعاسِه، أو قلقِه، ونحوِ ذلك مما يَشُقُّ على الشيخِ بسببِه الاِنتباهُ لقراءةِ الطالب، فيَفوتُ قدرٌ مِن القراءةِ بلا تصحيحٍ ولا أداءٍ صحيح، ورُبَما أخطأَ الطالبُ ولم يتنبَّهْ له الشيخ.
تحمُّلُ جَفوةِ الشيخ ؛ لأنَّ مَن لم يَصبرْ على ذُلِّ التعلُّمِ بقيَ عُمُرَه في عَمايةِ الجَهالة.
أن يُطوِّعَ أوقاتَه للأوقاتِ التي تناسبُ الشيخ.
عدمُ حسدِ أحدٍ من رُفقتِه المتقدِّمين عليه ؛ وطريقةُ ذلك: أن يَعلَمَ أنَّ حِكمةَ اللهِ تعالى اقتضَتْ جعلَ الفضيلةِ في هذا المتقدِّمِ عليه، فينبغي أن لا يَعترِضَ عليها ولا يكرهَ حكمةً أرادها اللهُ تعالى.
أن لا يُعجبَ بنفسِه بما حصَّلَه ؛ وطريقةُ ذلك: أن يَعتقِدَ أنَّه لم يَصِلْ إلى ما حصَّلَه بحَوْلِه وقوَّتِه، وإنَّما هو مِن فضلِ اللهِ تعالى عليه.
وللمزيدِ مِن هذه الآدابِ يُرجَعُ إلى كتابِ: ( التبيان في آداب حملة القرآن ) للإمام النوويِّ -رحمه اللهُ تعالى - فهو مِن أعظمِ الكتبِ في هذا الباب.
سابعاً: الإشهادُ على الإجازةِ القرآنيَّة
الإشهادُ على الإجازةِ القرآنيةِ نوعٌ من أنواعِ التوثيقِ، وليس شرطًا في صحَّتِها.
فإنَّ بعضَ مَن يُقرئ يُحِبُّ أن يُشهِدَ شيخَ قُـرَّاءِ البلد - مثلًا - على إجازتِه لبعضِ طلابِه، وذلك ليتأكَّدَ أنَّ غيرَه من أهل الفنِّ يُوافقونَه على مستوى إقرائِه ويُقِرُّون إجازتَه.
كما أنَّ بعضَ الطلبةِ يُحِبُّونَ أن يُشهِدوا على إجازتِهم مِن أستاذِهم كبيرَ قرَّاءِ البلد، أو أستاذَ أستاذِهم الذي لم تسمح لهم الظروفُ أن يَقرَؤا عليه.
وهذا الأمر قد يكون لمصلَحةِ المُجاز إذا طال عمرُه، وابتلاه اللهُ بمَن يُشكِّكُ في إجازتِه من أستاذِه ؛ حسدًا أو لغيرِ ذلك من الأسباب، مِن هنا استحسنَ إمامُنا الجزريُّ أن يُشهِدَ المُجازُ النُّجباءَ مِن أقرانِه المُنتهين.
قال -رحمه الله تعالى- في منجِد المقرئين: « وأما ما جرَتْ به العادةُ من الإشهادِ على الشيخِ بالإجازةِ والقراءةِ فحسنٌ يَرفَعُ التُّهمة، ويُسكِنُ القلبَ، وأمرُ الشهادةِ يتعلَّقُ بالقارئِ يُشهِدُ على الشيخِ مَن يَختار، والأحسنُ أن يُشهِدَ أقرانَه النُّجَباءَ مِن القُرَّاءِ المُنتهِين ؛ لأنَّه أنفعُ له حالَ كِبَره ».
ومِن ذلك ما ذكرَه ابنُ الجزريِّ - أيضًا - في ترجمة شيخِه محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ المعروفِ بابنِ الصائغِ الحنفيِّ (ت: 776 هـ) بقولِه:
« فقرأتُ عليه، فلما أن ختمتُ عليه الختمةَ الثانيةَ كتبَ لي الإجازةَ بخطِّه سألتُه أن يذهبَ إلى شيخِنا جمالِ الدينِِ عبدِ الرحيمِ الإسنَويِّ شيخِ الشافعيَّة, فذهبَ إليه وهو بالمدينةِ الناصريَّةِ من القاهرةِ فأَشهدَه, وما كان شيخُنا الإسنَويُّ يعلمُ أني أقرأُ القراءاتِ, فقال له: والقراءاتِ أيضًا ؟! فقال: وغيرَها مِن العلوم» .
ومنه أيضًا ما ذكرَه ابنُ الجزريِّ في ترجمةِ القاضي محبِّ الدينِ ناظرِ الجيوشِ بالديارِ المصريَّةِ ( ت سنة 778 هـ ) بقولِه: « قلتُ: وقرأتُ عليه جمعًا من البقرة إلى قوله: ﴿ خَتَمَ اللهُ ﴾ [البقرة: 7 ] وأجازني وشَهِدَ في أَجايِزي » .
تم اعتماد هذه المعايير العلمية لتعليم القرآن الكريم في مجال الإجازة القرآنية بالسند المتصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قِبل أعضاء المجلس العالمي لشيوخ الإقراء في اجتماع المجلس الثاني الذي عُقد في مكة المكرمة 2/رجب/1439هـ الموافق 19/مارس/2018م برئاسة معالي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى رئيس المجلس والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.